ري الخضروات بأقل كمية مياه هل هو مستحيل؟

 نبتة خضروات خضراء تنمو في تربة جافة متشققة، بجانبها أنبوب تنقيط يُخرج قطرة ماء واحدة، في ضوء شمس دافئ يعكس التحدي والأمل في الزراعة المستدامة

المقدمة: من أزمة المياه إلى زراعة أكثر وعيًا في ظل شحّ الموارد المائية وزيادة عدد السكان، أصبح من الضروري التفكير بطرق علمية ومبتكرة لري المحاصيل الزراعية بأقل قدر ممكن من المياه، دون التأثير على جودة المحصول أو كميته. ولأن الخضروات تُعد من أكثر المزروعات حساسية للماء، فإن تحقيق معادلة "إنتاج وفير + ماء قليل" يُعد تحديًا كبيرًا. ومع ذلك، فإن التطور في علم فسيولوجيا النبات، وتقنيات الري، وإدارة التربة، يجعل هذا التحدي قابلاً للتحقيق.

أولا: فسيولوجيا النبات واستهلاك المياه:

لفهم كيفية ري الخضروات بأقل كمية من المياه، علينا أولاً أن نعرف كيف تستخدم النباتات الماء. فالنبات يمتص الماء من التربة عبر جذوره، لكن النسبة الأكبر من هذا الماء لا تُستخدم في بناء الأنسجة أو التمثيل الضوئي، بل تُفقد من خلال عملية تُسمى "النتح". وتتم هذه العملية عبر فتحات دقيقة في أوراق النبات تُعرف بالثغور، وهي تعمل على تبريد النبات ونقل المعادن، لكنها تُعد أيضًا السبب الرئيسي لفقدان الماء. وقد أظهرت الدراسات أن أكثر من 95% من الماء الممتص يُفقد بالنتح.

** معامل كفاءة استخدام الماء (WUE) يُعد مقياسًا مهمًا في هذا السياق، وهو يعبر عن كمية المحصول التي يمكن إنتاجها لكل وحدة ماء مستخدمة. وتختلف الخضروات في هذا المعامل، فمثلًا، الطماطم تحتاج في المتوسط إلى 60–90 لترًا لإنتاج كغ واحد، في حين قد يحتاج الخس إلى أكثر من 250 لترًا لكل كغ. هنا يظهر التحدي، ولكن يظهر معه أيضًا الطريق للحل: تقليل الفاقد وزيادة الكفاءة.

ثانيا: تقنيات الري الحديثة لتقليل استهلاك المياه التقنيات الزراعية

شهدت تطورًا هائلًا في العقود الأخيرة، ومنها تقنيات الري التي تهدف إلى توصيل الماء مباشرة إلى جذور النبات بكفاءة عالية.

1. الري بالتنقيط تحت سطح التربة (SDI) يُعد هذا النظام من أكثر الطرق فعالية في ترشيد استخدام المياه. يعتمد على مدّ أنابيب ري مزودة بثقوب دقيقة تحت سطح التربة، بحيث تُوصل الماء مباشرة إلى منطقة الجذور. هذه التقنية تقلل من التبخر السطحي للماء بنسبة تزيد عن 70%، وتمنع نمو الأعشاب الضارة، وتقلل من انتشار الأمراض التي تنتج عن رطوبة الأوراق.

2. الري بالنبضات (Pulse Irrigation) في هذا النظام، يُضخ الماء بكميات صغيرة على فترات متكررة بدلًا من دفعة واحدة كبيرة. يساعد هذا على الحفاظ على رطوبة ثابتة حول الجذور دون الوصول إلى التشبع، ويمنع الفاقد الناتج عن تسرب الماء إلى الأعماق. وتُستخدم هذه التقنية مع مجسات رطوبة لقياس مستوى الرطوبة وتحقيق أقصى كفاءة ممكنة.

3. مجسات رطوبة التربة هذه المجسات توضع في التربة على أعماق مختلفة لقياس محتوى الرطوبة بدقة. تعمل المجسات على إرسال بيانات وقتية إلى نظام تحكم إلكتروني يقوم بتشغيل أو إيقاف نظام الري تلقائيًا. وبهذا الشكل، لا يتم ري النباتات إلا عندما تحتاج فعليًا إلى الماء، ما يؤدي إلى تقليل كبير في استهلاك المياه.

4. التحكم الذكي في الري أنظمة الري الذكية تعتمد على وحدات تحكم إلكترونية متصلة بتطبيقات هاتف أو حاسوب، وتُبرمج هذه الأنظمة حسب نوع التربة، ومرحلة نمو النبات، وظروف الطقس. هذه الأنظمة تقلل التدخل البشري وتزيد من الدقة في توزيع الماء.

ثالثا: التربة والتقنيات المساعدة في الاحتفاظ بالرطوبة

 التربة ليست فقط وسطًا لزرع النبات، بل هي عنصر فاعل في تخزين الماء وإطلاقه بذكاء نحو الجذور.

  1. التغطية العضوية (Mulching) يُقصد بها تغطية سطح التربة بطبقات من المواد العضوية كالقش أو أوراق الأشجار أو نشارة الخشب. هذا الغطاء يعمل كحاجز طبيعي يمنع تبخر الماء من سطح التربة، ويقلل من نمو الأعشاب، ويحافظ على درجة حرارة التربة مستقرة.

  2. البوليمرات المائية (Hydrogels) هي مواد قادرة على امتصاص كميات ضخمة من الماء ثم إطلاقه تدريجيًا إلى التربة حسب حاجة النبات. توضع البوليمرات حول منطقة الجذور، وتُعد مثالية في الزراعة في التربة الرملية أو المناطق الجافة.

  3. تحسين بنية التربة بالمادة العضوية إضافة الكمبوست والأسمدة العضوية يزيد من قدرة التربة على الاحتفاظ بالماء. التربة الغنية بالمادة العضوية يمكنها الاحتفاظ برطوبة أكثر بثلاثة أضعاف مقارنة بالتربة الفقيرة.

رابعا: فسيولوجيا النبات كأساس لتقليل الري 

من خلال فهم سلوك النبات، يمكن التدخل لتحسين كفاءة استخدامه للماء.

  1. تقليم الأوراق الزائدة الأسطح الورقية الزائدة تعني مزيدًا من التبخر. تقليم الأوراق السفلية أو القديمة يقلل من فقد الماء ويُحسن من التهوية، ما ينعكس إيجابًا على نمو النبات.

  2. رش الكاولين والسيليكون رذاذ السيليكون أو مسحوق الكاولين يُشكل طبقة خفيفة على الأوراق تعكس أشعة الشمس، وتقلل من درجة حرارة الورقة، وبالتالي من معدل النتح. هذه التقنية تقلل فقد الماء بنسبة تصل إلى 25%.

  3. تحفيز نمو الجذور العميقة باستخدام محفزات نمو طبيعية مثل حمض الجبريليك أو مستخلصات الأعشاب البحرية، يمكن تشجيع الجذور على التعمق بحثًا عن الماء، ما يقلل من الاعتماد على الري السطحي.

خامسا:  توقيت وفترات الري الذكي

 ليس فقط "كم" نروي، بل "متى" نروي يُحدث فارقًا كبيرًا.

  1. الري في الصباح الباكر أو بعد الغروب أثبتت الدراسات أن الري في الأوقات المعتدلة حراريًا يقلل من التبخر السطحي بنسبة 30% مقارنة بالري وقت الظهيرة.

  2. توقيت الري حسب مرحلة نمو النبات النبات يحتاج لكميات مختلفة من الماء في مراحل مختلفة:

  • أثناء الإنبات: يحتاج الماء بكثافة.

  • أثناء التزهير: الحذر من نقص الماء حتى لا تتساقط الأزهار.

  • أثناء النضج: يمكن تقليل كميات المياه لتشجيع النضج وتحسين الطعم.

سادسا: تخطيط الزراعة لتقليل استهلاك المياه

  1. الزراعة البينية الذكية زراعة أكثر من نوع نباتي في نفس الأرض (مثل الطماطم مع الريحان أو البصل) تساعد في تظليل التربة وتقليل التبخر.

  2. المصاطب المرتفعة الزراعة على مصاطب تسهل توجيه المياه مباشرة إلى الجذور، وتقلل من الفاقد الناتج عن الجريان السطحي.

  3. التباعد المناسب بين النباتات عند زراعة الخضروات بتباعد مناسب، لا تزداد المنافسة على الماء، ويصبح من الممكن إدارة الري بدقة أكثر.

سابعا: دراسات حالة من العالم الحقيقي

  1. زراعة الطماطم في الوادي الجديد – مصر باستخدام الري بالتنقيط تحت السطح، وتغطية التربة، ومجسات الرطوبة، تم توفير 55% من المياه، مع زيادة المحصول بنسبة 18%.

  2. زراعة الخس في غزة تمت تجربة رش الكاولين + التغطية العضوية، فتم تقليل استهلاك الماء بنسبة 40% دون التأثير على الإنتاجية.

الخلاصة:

ري الخضروات بأقل كمية من المياه ليس حلمًا طموحًا، بل ضرورة قابلة للتحقيق علميًا. من خلال استخدام تقنيات الري الحديثة، وفهم سلوك النبات، وتحسين التربة، وإعادة النظر في توقيت الري وطريقة الزراعة، يمكننا تحقيق إنتاج زراعي وفير باستخدام موارد مائية محدودة.

كل قطرة ماء نوفرها اليوم، هي ضمانة لمحصول الغد واستدامة مستقبلنا الغذائي والمائي.

تعليقات